Sélectionnez votre langue

لقاء


انسانيات عدد 89| 2020 |عدد متنوع|ص 19-31| النص الكامل


 


مع الأستاذ عدنان الأمين

إثراءً للعدد المتنوع الذي سيصدر من مجلة إنسانيات أجرينا هذه المقابلة مع البروفيسور عدنان الأمين، أستاذ متفرّغ للبحث والنّشر منذ 2011، صدر له 23 كتابا وأكثر من أربعين ورقة نشرت في دوريات لبنانية وعربية وأجنبية، بالإضافة إلى فصول في كتب جماعية. أطلق فكرة إنشاء الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية (1995) وكان رئيسها لمدّة 11 سنة، وأطلق فكرة إنشاء شبكة المعلومات العربية (شمعة) (2006)، وهو حاليا عضو مجلس أمنائها. نال عدنان الأمين شهادة الدكتوراه في علم اجتماع التربية من جامعة السوربون (باريس) في العام 1997، وشهادة دكتوراه دولة في الآداب من جامعة السوربون في العام 1991. عمل أستاذ علوم التربوية في الجامعة اللبنانية حتى العام 2008، وأستاذا متعاقدا مع الجامعة الأميركية في بيروت.

فؤاد نوار*: نهنئكم بداية على صدور كتابكم الجديد "إنتاج الفراغ، التقاليد البحثية العربية"، ونتحيّن هذه الفرصة لمساءلة تجربتكم البحثية حول الممارسات البحثية في العلوم الاجتماعية في العالم العربي. ناقشت العديد من الندوات العلميّة مسألة التحديّات التي تواجهها العلوم الاجتماعية في العالم العربي، ولعلّ ملتقى وهران الموسوم بـ"مستقبل العلوم الاجتماعية في العالم العربي" المنعقد سنة 2012 قد أثار بعضا منها عندما تطرّق إلى مسائل تدريس هذه العلوم وفاعليها في الحقل الجامعي. فما هي بالنسبة إليكم التحدّيات التي تواجه العلوم الاجتماعية في العالم العربي اليوم؟ وكيف يمكن قراءة ذلك في ظل التغيّر الجيلي؟

عدنان الأمين: أتوجّه بالشكر الجزيل إلى مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية (كراسك) والقائمين عليه، ومجلة إنسانيات على اهتمامها بكتاب "إنتاج الفراغ، التقاليد البحثية العربية" وإجراء هذه المقابلة. جوابا على السؤال، يبدو لي أنّ النزعات الشائعة في مقاربة قضايا العلوم الاجتماعية في العالم العربي تتوزّع وفق مجموعتين: الأولى تتوقّف عند الهوية، والثّانية تتوقّف عند السياسات. في موضوع الهويّة يتركّز الحديث على علاقة علماء الاجتماع العرب بالغرب، باعتبار أنّ علم الاجتماع غربي الجذور والوجود وتسيطر مدارسه ومقولاته عالميا. طبعا هذه السيطرة واقع قائم، لكن ردّة الفعل عليها تتّخذ الهوية (العربية والإسلامية) خلفية لها أكثر ممّا تتخذ الوقائع الاجتماعية (العربية والإسلامية) مادّة للتّفكير.

نحن نعلم أنّ هناك سوسيولوجيا فرنسية مثلا وأخرى إنجليزية مقارنة بالسوسيولوجيا الأميركية أو السوسيولوجيا الألمانية. لكن -حسب علمي- فإنّ نشأة هذه المدارس لم تخضع لدواعي وطنية أو قومية، فمثل هذه الدعوة تصنّف في باب الإيديولوجيا على غرار الدعوة الى علم اجتماع اشتراكي أو عربي أو إسلامي. فالمدارس تعرف من إنتاجها المعرفي، مفكريها وأعمالها. في فرنسا مثلا عرف دروركهايم أو بورديو وغيرهما الكثيرون لأنّهم فكّروا بصورة مجرّدة، استنادا إلى وقائع محليّة وفي جدال مع أفكار عالمية. عندما كتب بورديو وجان-كلود باسرون كتابهما "الورثة-الطلاب والثقافة" (1964) حلّلا الوقائع الفرنسية من خلال إجراء بحث على الطلاب استنادا إلى مفاهيم عالمية الطابع، وهو ما جعل كتابهما "صالحا للقراءة" محليّا وخارج الحدود. لم يكتب بورديو يوما باعتباره مدافعا عن الهوية الفرنسية في مواجهة الغرب الأميركي. وبعد عقدين، وبسبب غزارة إنتاجه وقوّة أفكاره أصبح عالميا وصار علما من أعلام السوسيولوجيا الفرنسية، بل أصبحت البورديوزية مدرسة عالمية في علم الاجتماع، ومثلما كان الأميركيون هم أوّل من ترجم لدوركهايم وعرّفوا الفرنسيين به فقد كانوا أول من ترجم لبورديو.

خلاصة القول، هناك مدارس فكريّة ذات سياق جغرافي، تنطلق من وقائع هذا السياق، لكنها لا تصبح مدارس فكرية إلا إذا تفاعلت مع الأفكار والنظريات العالمية وأصبحت جزءً من التراث العالمي. واقع الحال أنّ هناك علوما اجتماعية عربية، تجمع أعلاما ومؤلفات بالمئات بل الألوف. وإن كانت هناك مشكلة فليس لأنها مستلبة من قبل الغرب ويجب تحريرها منه باعتبار أنّ الدول العربية لها لغتها ودينها، بل المشكلة في أنّها تقدس مصادرها، سواء كانت فكرا غربيا أو أصوليا أو سلطانا محليا، بصورة معلنة أو مستترة، مباشرة أو عن طريق التلفيق أو التجنب.

التحدّي الثاني يتعلّق بالسياسات، أي بنظرة علماء الاجتماع إلى "المعوقات" المتأتية من سياسات الحكومات والمؤسّسات (مراكز الأبحاث والجامعات). وعادة ما يلقي أهل العلوم الاجتماعية اللّوم على هذه الجهات في مواضيع مثل التخطيط والتمويل والتحفيز وشروط العمل (البحث مقابل التّعليم وساعات العمل) وما إلى ذلك. هذه الوقائع صحيحة برأيي ولكنها غير كافية لتفسير واقع أنّ هناك آلاف الأبحاث في العلوم الاجتماعية من المحيط إلى الخليج تنشر سنويا في مجلاّت علمية عربية أو بصورة كتب. كذلك لا مجال لاستثمار فكرة "المعوقات" في تفسير ضعف العلوم الاجتماعية في بلدان لا تشكو من التمويل ولا الموارد المكتبية والتوثيقية ولا من ساعات عمل التعليم أو غيرها، كما هي الحال في معظم دول الخليج العربي.  

يبدو لي أنّ الشّكوى من الغرب تشبه الشّكوى من الحكومات والمؤسّسات وسياساتها. هي طقس، كما طقوس العزاء. لقد أفلح علماء اجتماع عرب (في كافّة حقول العلوم الاجتماعية) في الحضور عربيا وعالميا، كلٌّ حسب مساهمته الفكرية في ميدانه، بعضهم مقيم في الغرب والبعض الأقل مقيم في البلدان العربية، لكن لم يشكـّل هؤلاء بعد مدرسة مثل المدارس الفرنسية والإنجليزية وغيرهما. ويُخيّل لي أنّ الجيل السّابق من الأكاديميين في العلوم الاجتماعية كان أكثر انفتاحا على الطروحات العالمية من الجيل الحالي -وإن بدا في هذا التخيّل بعض من المفارقة- بسبب العولمة. كأنّ العولمة حفزت نقيضها، أي الانطواء والأصولية.

وإن كان هناك من خلاصة لكلّ هذا الكلام عن مواجهة التحدّيات فهي تتجلّى في منحيين: الكفّ عن الدعوة إلى إنشاء علم اجتماع عربي، والتقدّم في إنتاج معارف في العلوم الاجتماعية تضيف -استنادا إلى وقائع المجتمعات العربية- طروحات ومفاهيم ذات طابع عالمي. وعندما نصل إلى هذه النقطة حينها سيتحدث غيرنا عن المدرسة العربية في العلوم الاجتماعية، إذا كان لمثل هذه الفكرة من شرعية فعلية لدى الجماعة العلمية العالمية.

فؤاد نوار: من خلال اطلاعكم النقدي على إنتاج العلوم الاجتماعية في الجامعات والهيئات ومراكز البحوث في العالم العربي ومنتجاتها، أيّ تقييم تقدّمونه اليوم للعلوم الاجتماعية من حيث الممارسات البحثية المؤسّساتية؟

عدنان الأمين: لقد خصّصت فصلا في كتابي "إنتاج الفراغ" لموضوع الجامعات ومراكز الأبحاث، مع التركيز على المؤسّسات الحكومية، باعتبار أن الجامعات العامّة ومراكز الأبحاث التابعة لهذه الجامعات وللوزارات تشكّل الكتلة الأساسية في التّعليم العالي ومراكز البحث في سائر البلدان العربية ما عدا لبنان. برأيي أنّ الجامعة العامّة النمطية (typique)، أي الأكثر انتشارا، تلزم الأساتذة والباحثين بشروط أربعة: حوكمة سياسية (تفرض الامتثال)، تهميش العلوم الاجتماعية، تلقين المعرفة اليقينية، الانغلاق المعرفي. وإذا صحّ هذا التوصيف يكون الأساتذة الباحثون فيها والطلاب الذين يتدرّبون على البحث ويشقّون طريقهم إلى التّعليم والبحث أسرى هذه الشروط. وهذا يعني أنّ الإنتاج المعرفي في العلوم الاجتماعية تحكمه، في الأغلب الأعم، تقاليد بحثية ذات قوّة تشبه قوّة الطبع الاجتماعي (habitus) عند بورديو" (ص. 71). وسبب هذا التشبيه أنّني أبرهن -على امتداد الكتاب- على أن التقاليد البحثية الشائعة في العلوم الاجتماعية ليست تقاليد معرفية بل هي تقاليد اجتماعية، وتتلخّص هذه التقاليد في البحث في أربع نقاط:

  1. "أولوية العائد الاجتماعي للبحث، الظاهر في السعي السريع إلى الترقّي في السلّم المهني في الجامعة، والسلّم الاجتماعي عموماً، والسعي نحو الشارة الاجتماعية والمجاملة، وهذه هي "المصلحة".
  2. الحرص على المقبوليّة الاجتماعيّة لدى أهل السّلطة ومتّخذي القرارات والرأي العام، ومراعاة التقاليد والأعراف والطابوهات الاجتماعية، وتجنّب البحث في القضايا المثيرة سياسيا واجتماعياً، وهذه هي "الامتثالية".
  3. توهُّم مخاطبة الجمهور الواسع والسّلطة السياسية عن طريق رفع التّوصيات أو عن طريق تقديم أعمال تقوم على الشّرح، أو ما يشبه تقارير الخبراء أو عن طريق المعيارية الاجتماعية، وهذا هو "الوسواس".
  4. اتخاذ إيديولوجيا معيَّنة أو قيما معينة (دين، مذهب ديني، جماعة، حزب سياسي، أو غيرها) مرجعية في فحص الواقعة المدروسة بدلاً من النظريات الاجتماعية، وهذا هو "الانخراط الاجتماعي" (عدنان الأمين،2020، ص. 107).

أمّا بالنسبة لمراكز الأبحاث فهي إمّا مراكز جامعية أو تابعة لوزارات، وفي الحالتين هي مختلفة كثيرا عن النموذج الأميركي وأقرب إلى النموذج الفرنسي. وما كان منها أقرب إلى النموذج الفرنسي فهو يتشبّه بها في الشكل والتّسميات (ولا سيما المختبرات البحثية). في الجامعة النمطية تأخذ المراكز أسماء الكليات وتخضع لعمدائها ويتحوّل نشاطها من البحث إلى النشاط الاجتماعي (على طريقة الدواوين الخليجية) أو إلى التدريب، بل تبيّن المعطيات أنّ هذه المراكز تتخذ أحيانا مساحة لتوزيع مناطق النفوذ والتوظيف والإعفاء من التّعليم تلبية لطلبات "الراحة". مراكز البحث في الوزارات أكثر شبها بمثيلاتها في أوروبا وأميركا لجهة إنتاج تقارير موجّهة نحو خدمة السياسات العامة أو الحكومية. لكن مع غلو البيروقراطية والمحسوبية يتحوّل بعضها أحيانا إلى مطاحن تصدر ضجة أكثر مما تنتج طحينا.

فؤاد نوار: سبق وأن قدّمت العديد من الدراسات النّقدية تصنيفات خاصّة بالمشتغلين في العلوم الاجتماعية، ولعلّ أبرزها ذلك التّصنيف الذي يقسّم هذه الفئة بين "مدرّس العلوم الاجتماعية" بصفته شكلا شائعا أو نمطيا و" الباحث الكلاسيكي" و"الخبير". ما موقفكم من هذه التّصنيفات؟

عدنان الأمين: أنظر إلى مثل هذا التّصنيف بحذر، على الأقل في موضوع فهم الممارسات البحثية. إنّ تصنيف المنتِجين (باحثون، معلمون، إلخ) يفضي إلى الالتباس، ومن الأفضل تصنيف المُنتَجات. فلان قد يكون باحثا في زمن معين، وأستاذا (معلما) في زمن ثان، وخبيرا في زمن ثالث، وناشطا (نقابيا أو سياسيا) في زمن رابع، ويخاطب الرأي العام في زمن خامس، وكلّها أدوار حقيقية ولها وظيفتها. وفي كلّ زمن من هذه الأزمنة المتناوبة ينتج الإنسان الأكاديمي نصوصا وينشرها. فكيف أصنّفه في فئة دون غيرها؟ كٌّل من هذه الأدوار أمر ضروري في علاقة الأكاديمي بالمجتمع، والتنقل بين هذه الأزمنة والأدوار يسمح له بتغذية كل فعل بنتائج الفعل الآخر، فالطبيب الذي يجري أبحاثا يُغذّي ممارساته في العلاج وممارسات العلاج تطرح عليه قضايا يحوّلها إلى أسئلة بحثية جديدة. وما يصحّ على الطبيب يصحّ على الأستاذ الجامعي. بل أدعي في الكتاب، أنّ الخلط بين هذه الأزمنة هو المشكلة، وهو ظاهرة شائعة في العلوم الاجتماعية في العالم العربي، وهو واحد من أركان التقاليد الاجتماعية في البحث الذي سميته "الوسواس". ويحصل الوسواس عندما يخاطب المؤلّف في دراسته متّخذي القرارات (بصفته خبيرا) أو الطلبة (بصفته أستاذا) أو العامّة (بصفته شيخا)...، في حين أنّه يجب أن يخاطب زملاءه في الجماعة العلمية فقط لا غير إذا كان يقوم ببحث. في تصنيفي للمنتجات المعرفية أميّز بين "البحث" (الذي يفسّر) و"التقرير" (الذي يحكم ويوصي على طريقة الخبير أو المتفقد) والمطالعة (position paper)، وهي وجهة نظر موجهة لجمهور معين مبنية على معرفة أكاديمية، والمحاضرة (على طريقة الأستاذ) والخطاب (على طريقة الشيخ أو النقابي أو السياسي). 

فؤاد نوار: بحكم اهتمامكم البحثي في العلوم الاجتماعية بموضوعات التّربية والتّنشئة الاجتماعية، وإشرافكم على قاعدة البيانات "شمعة"[1]، أيّة حصيلة تقدّمونها للإنتاج المعرفي في العالم العربي حول هذه الموضوعات؟ وما مكانتها ضمن خريطة إنتاج المعارف في الدوريات المحكّمة والمصنّفة دوليا؟

عدنان الأمين: تعلمون أن المشاركين في الإنتاج المعرفي التربوي كُثُر. منهم الأفراد الذين ينشرون أبحاثا بصورة مقالات في الدّوريات، عموما من أجل التّرقية، أو ينشرون كُتُبًا هي في الأغلب كتب جامعيّة (textbooks)، أو يقدّمون مذكرات الماجستير في التّربية والعلوم. ومنهم المنظمات الدولية ذات المكاتب الإقليمية في البلدان العربية، التي تنشر تقارير يُكلّف خبراء بإعدادها. ومنهم الوزرات التي تنشر تقارير أيضا، هذا عدا أشكال النشر الأخرى التي تكلّمت عنها أعلاه. وإذا توقفنا عند الدراسات التي وثّقتها شمعة حتى الآن (ابتداء من العام 2007) والبالغ عددها 58.159 ألف دراسة، يكون المعدل السّنوي 4.473 دراسة. بكلام آخر هناك غزارة في الإنتاج المعرفي التربوي في البلدان العربية. من جهة ثانية يلاحظ غلبة المقالات، التي تشكّل 63% من المجموع، وهي منشورة في 322 مجلة، سُدسها مجلات متخصّصة في التربية، أمّا المجلات الباقية فعامّة الطابع وتنشر مقالات في التربية. ومن اللافت أنّه حتى المجلات المتخصّصة في التربية هي مجلات عامّة، أي ينشر كل منها في جميع مجالات التربية، وهذا يضعف تكوين ما يسمى بالكتلة الحرجة (critical mass) في كل حقل على حدة. من جهة الرسائل والأطروحات فإن توثيقها من قبل شمعة متعثـّر بسبب عدم إتاحتها في قواعد بيانات وطنية، ما خفض عددها في شمعة ليوازي نصف عدد المقالات. ولو أتيح توثيقها بصوة طبيعية فمن المتوقع أن ينافس عددُ الرسائل والأطروحات عدد المقالات. والمهم أنّ الإنتاج المعرفي العربي التربوي هو إنتاج جامعي بالدّرجة الأولى: الأساتذة ينشرون المقالات والطلاّب يقدّمون الرسائل والأطروحات.

ليس هناك قواعد بيانات عربية في العلوم الاجتماعية الأخرى لكي نقارنها بيانات البحث في التربية. وهذه نقطة ضعف في التوثيق المعرفي العربي، أمّا بالنسبة للموضوعات التربوية فقد لفتني أنّ هناك مواضيع معيّنة يكثر فيها الإنتاج ليس بسبب أهميتها، بل بسبب سهولة إجراء دراسات حولها، وبالتحديد تلك التي يسهل فيها على الأساتذة توزيع استمارات على الطلاّب والمعلمين مثلا. ولفتني أنّ الدراسات التي تعالج موضوعا معينا قد تعود وتعالج الموضوع نفسه عشرات المرات، مع فرق أنّها تعالجه في جامعة أخرى أو قسم آخر أو حتى شعبة أخرى. كما لفتني وجود قوالب بحثية جاهزة في رؤوس المؤلفين. ومنها قالب "الأثر" (مثلا: أثر كذا على كذا)، وهو قالب يسمح بإجراء الملايين من الدّراسات طبقا له، لأنّه أقرب إلى التّمرين على القياس منه إلى البحث، ويوصل إلى الفراغ المعرفي وهذا أحد الأسباب التي دفعتني إلى اعتماد هذه العبارة في عنوان كتابي.  

أمّا بالنسبة للموقع الدولي للإنتاج المعرفي المحلي فليس لدي بيانات تؤكّد أو تنفي هذا الموقع. لكن ما اطلعت عليه يظهر أنّ الدوريات المنتجة محليا فيها الكثير من عدم الدقة في التوثيق، سواء بالنسبة لتدقيق المصادر والمراجع، أو بالنسبة لأسماء المؤلفين والدوريات باللغتين العربية والأجنبية، تضاف إليها المشاكل المتعلقة بنوعية الأبحاث ومكانة ما هو دولي فيها. ففي بحث حول الدراسات التي تناولت الإنصاف في التعليم، تبيّن لي في المقالات القليلة التي وجدتها غياب صاعق لما هو متداول عالميا منذ عقدين حول هذا الموضوع. وقد بينتُ ذلك في الفصل الثامن من الكتاب. ما هو عالمي في المقالات العربية شكلي الحضور، وبالتّالي فإنّ حضور الدوريات العربية عالميا ضعيف. هذا فضلا عن إشكال اللّغة (العربية) في وقت يتمّ فيه التصنيف الدّولي استنادا إلى النّشر باللّغة الأجنبية، نحن نبلور الآن في شمعة مشروعا لتصنيف الدوريات التربوية العربية، ثم سنبحث عن ممول له، لعلّ المجلاّت الأكاديمية المحكمة وغير المحكمة تدرك نقاط الضعف التي تعاني منها وتسعى الهيئات المشرفة عليها إلى تطويرها من ناحيتي الشّكل والمضمون.

فؤاد نوار: مـــاهي التحدّيات المعرفيّة التي تواجه البحوث حول التّربية في العالم العربي في ظلّ الرّهانات المختلفة التي تحكم المنظومات التربوية في المنطقة؟ وهل هذه التحدّيات مرتبطة بالتّغيير الجيلي المتسارع لفاعلي المنظومة الجامعية والبحثية؟

عدنان الأمين: إنّ أهم تحدٍّ تواجهه البحوث التربوية العربية هو كون المنظومات التربوية العربية ليست بحاجة لها. متخذو القرارات عادة، في كل بلدان العالم، لا يقرأون البحوث لكي يعرفوا ماذا يجب أن يقرروا. فقراراتهم يأخذونها بناء على مصدرين: الأوّل هو الاتجاه السياسي للجهة الحاكمة، وزيرا كان أو حزبا سياسيا، وما يحمله هذا الاتجاه من سياسات ومبادئ ومصالح وشعارات، والثاني يتمثّل في الخبراء. في أميركا أو فرنسا أو ألمانيا أو غيرها من الدول الديمقراطية تبدأ دورة اتخاذ القرارات بالدعاوى أي بالمطالبات والتحرّكات ووسائل الإعلام وتكوين قوى ضغط وتنظيم حملات، وإدراج ذلك ضمن البرامج السياسة للأحزاب المتنافسة أو المتصارعة في برامجها التربوية...وصولا إلى السلطة. وفي السلطة قد تنفذ الوعود وقد لا تنفذ، وعند التنفيذ يستعين السياسيون بالخبراء، وحينها أيضا يتعرض ما تقرّر لتقلبات وتعديلات تدخل فيها مصالح وضغوط مضادة، وتنشأ عن ذلك مطالبات جديدة، فدورة جديدة. في كل هذه الدورة لا توجد "بحوث". البحوث تقع بموازاتها، والمعارف التي تنتج عن البحوث يمكن أن تدخل هذه الدورة بعد إعادة صياغتها إلى مختصرات وأفكار ينقلها الباحثون أنفسهم إلى المجتمع (مطالعات، مقابلات، محاضرات)، أو عبر الجمهور الذي يقع على حدود الجماعة العلمية والذي يسمّيه ريمون بودون الجمهور المعني (public averti)، فضلا عن الإعلاميين والناشطين الاجتماعيين والنّقابات وغيرهم، أي بعد تبنّيها اجتماعيا.

في البلدان التي يتمّ اتخاذ القرارات بمشيئة جهات حاكمة واحدة (ثابتة)، ومنها بلداننا، لا تحصل هذه الدورة أصلا. ويجري الاتكال على الخبراء، وبخاصّة على الخبراء الأجانب (من دولة أخرى أو منظمة دولية كاليونسكو أو برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إلخ)، في ترجيح الخيارات. بالمقابل فإنّ الباحث النمطي في هذه البلدان يتوهّم أنّ المشكلة الاجتماعية (أو التربوية) قائمة بسبب نقص البحث فيها، ولهذا يوجّه دراسته منذ البداية نحو رفع التوصيات، فتصبح هذه الدراسة غير مجدية معرفيا، ولا يحتاجها أصلا متخذو القرارات. نفعها الوحيد أنّها تنفعه هو. وقد سمّيتُ هذه الحالة في الكتاب بـ "البحث من أجل الباحث".  

فؤاد نوار: نتابع منذ سنوات 2011 تغيّرات متسارعة في المشهد السياسي في العالم العربي، ولعلّ الوضع اللبناني -مثل نظيره الجزائري- لا يمثّل استثناء في ذلك. كيف تقرؤون "الحراك" الأخير في لبنان في ظلّ الواقع الاقتصادي والاجتماعي وكذا الطائفية المكرّسة سياسيا؟

عدنان الأمين: نعم، تغيّر المشهد السياسي العربي في العام 2011، وقد عشنا نوعا من الشعور بالنعمة والغبطة من أنّه حصل أخيرا ما كان يتمنّاه أي مواطن عربي بأنّ يرى ويسمع بنفسه تغيرا يحدث في الأنظمة السياسية التي كانت تبدو كأنّها أبدية. وبلغ هذا الشعور أوجه مع سقوط بن علي في تونس ومبارك في مصر. طبعا نعرف كيف تطوّرت الأمور سلبا في مصر وكيف انقلب الوضع في غيرها من الدول العربية إلى مأساة (اليمن، ليبيا، سوريا).

كل حراك كان يهدف إلى التغيير السياسي، أي كان ضد القوى السياسية المسيطرة. هذه القوى تختلف طبيعتها من بلد عربي إلى آخر، كما أنّ الحراك اختلف أيضا من بلد عربي إلى آخر، من حيث طبيعته والقوى الاجتماعية التي انخرطت فيه، فورا أو لاحقا. في لبنان كانت الانتفاضة شبابية من جهة، ومن أبناء الطبقة الوسطى المتعلّمين من جهة ثانية. أمّا القوى المسيطرة فتتمثل بأحزاب سياسية ذات قواعد طائفية عريضة. ومع أنّ الانتفاضة أدت إلى ضعضعة هياكل أحزاب السلطة، إلاّ أنّ هذه الأحزاب تمكنت تدريجيا من استعادة جمهورها ثم شنت حملات أيديولوجية وجسدية على شباب الانتفاضة، وافتعلت جبهات ومعارك جانبية على أساس طائفي. السلطة في لبنان ليست ديكتاتورية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بل تتكون من ستة زعماء على الأقل، متعاونين، متصالحين، متفقين على اقتسام موارد الدولة، بل افتراسها. وسر شعبيتهم أنّ كل زعيم يحرّض جمهوره ضدّ الجماعة الأخرى باعتباره الزعيم الذي يدافع عن مصالحها، ويقدّمون معا بالتضافر والتكامل خيارين فقط للشعب اللبناني: إمّا استمرار التكافل بينهم في حكومات "وحدة وطنية" أو التهديد بحرب أهلية.   

جاءت انتفاضة الشّباب بشعار قوي يشمل الجميع: "كلن يعني كلن"[2]، فشعروا بالتّهديد وسارعوا إلى تعطيل مسارها، بل انخرط بعضهم فيها على طريقة "حصان طروادة". وشكّل موضوع "المقاومة" في مرحلة من المراحل نقطة تحوّل في مسار الهجمة المضادة، حيث قيل إنّ الانتفاضة تديرها منظمات غير حكومية تمولها الولايات المتحدة، وهذا ما جعل اليساريين المشاركين في الانتفاضة يتحوّلون من السّلطة السياسية (كلن يعني كلن) إلى السّلطة "الرأسمالية" (حاكم المصرف المركزي وقطاع المصارف). وهذا واحد من الأسباب التي أحدثت شروخا في الانتفاضة نفسها.

يجب أن نفتّش في كل بلد عن العامل الداخلي، الذي حسم سير الحِرَاكَات في هذا الاتجاه أو ذاك. تونس كانت البلد الوحيد الذي وجدت فيه قوّة منظمة ترفد الانتفاضة وتؤطرها، وهذه القوة هي النقابات. في لبنان جرى افتراس النقابات منذ عدّة عقود. وكانت القوى الفاعلة ضد الحِرَاكَات حماية لمصالحها أو أطماعها في الحكم متنوعة: القبائل والعشائر في ليبيا واليمن، العشائر والطوائف في سوريا، الطوائف في لبنان، الجيش في مصر وغيرها. وهذه القوى سياسية وقادرة ولديها مواردها وهيكلياتها وخطابها وشبكة علاقات خارجية.

ومهما يكن، على الأقل بالنسبة إلى لبنان، فإنّ الانتفاضة تركت أثرا عميقا في الحياة والثقافة السياسية اللبنانية، ولن تعود الأمور كما كانت قبل السابع عشر من تشرين الأول 2019، يوم انطلاقها.

أهم منشورات عدنان الأمين

الكتب

عدنان الأمين، (2020). إنتاج الفراغ: التقاليد البحثية العربية. بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون.

عدنان الأمين، (2005). إصلاح التعليم العام في البلدان العربية. الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية.

عدنان الأمين، (2004). التنشئة الاجتماعية وتكوين الطّباع. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.

عدنان الأمين، محمد فاعور، (1997). الطلاب الجامعيون في لبنان واتجاهاتهم: إرث الانقسامات. بيروت: الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية.

عدنان الأمين، (1994). التعليم في لبنان: زوايا ومشاهد. بيروت: دار الجديد.

مساهمات في كتب

الجامعة اللبنانية تحت وطأة التّحولات السياسية، ضمن كتاب: سير عشر جامعات حكومية عربية. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات ، ط.1/2015.

قياس النوعية في التعليم العالي، ضمن كتاب: قضايا النوعية في التعليم العالي في البلدان العربية. بيروت، الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية. يناير 2014.

مقالات

عدنان الأمين، (2018). الجامعات العربية وتحديات التغيّر الاجتماعي. مجلة عمران، (26)، 61-82.

عدنان الأمين، (2017). ثقافة القانون في الجامعات العربية، مجلة إضافات، (36-37)، 72-99.

عدنان الأمين، (2017)، لماذا الدور المدني للجامعات. مجلة إضافات، (36-37)، 14-16.

عدنان الأمين، (2016). الخداع البحثي في العلوم الاجتماعية. مجلة إضافات، (33-34)، 4-17.

Les modèles de gouvernance des universités arabes. Revue Défense Nationale Libanaise, (96), Avril 2016, 35-6.

الهوامش 

* مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، 000 31، وهران، الجزائر.

[1] https://www.shamaa.org/

[2] استلهم هذا الشعار من الحراك في الجزائر الذي رفع شعار "يتنحاو ڤاع".

Appels à contribution

logo du crasc
insaniyat@ crasc.dz
C.R.A.S.C. B.P. 1955 El-M'Naouer Technopôle de l'USTO Bir El Djir 31000 Oran
+ 213 41 62 06 95
+ 213 41 62 07 03
+ 213 41 62 07 05
+ 213 41 62 07 11
+ 213 41 62 06 98
+ 213 41 62 07 04

Recherche